عقوبات بلا تفويض أممي.. انتهاكات صامتة تهدد الحقوق الأساسية والتنمية المستدامة

عقوبات بلا تفويض أممي.. انتهاكات صامتة تهدد الحقوق الأساسية والتنمية المستدامة
الولايات المتحدة

بينما تتجه الأنظار غالبًا إلى النزاعات المسلحة والكوارث الطبيعية باعتبارها أبرز أسباب الأزمات الإنسانية، تتصاعد في الخفاء أزمة لا تقل خطورة تتمثل في التدابير القسرية الانفرادية أو الأحادية الجانب، هذه العقوبات التي تفرضها دول على أخرى خارج إطار مجلس الأمن، أو عبر آليات غير ملزمة دوليًا، تتسبب في تآكل واسع للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والعمالية لملايين البشر، ما يثير قلقًا متناميًا لدى خبراء الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية حول شرعيتها الإنسانية والقانونية.

في الدورة الستين لمجلس حقوق الإنسان بجنيف، قدّمت ألينا دوهان، المقررة الخاصة المعنية بالتأثير السلبي للتدابير القسرية الأحادية الجانب على التمتع بحقوق الإنسان، تقريرًا حذّرت فيه من التوسع المفرط في استخدام هذه العقوبات، بحسب ما أورده موقع "ريليف ويب" الأممي يوم الاثنين، وأشارت إلى أن العقوبات لا تقتصر على إضعاف الأنظمة المستهدفة، بل تمتد إلى المجتمعات بأكملها، حيث تتضرر حقوق أساسية مثل الملكية والعمل والصحة والغذاء والتعليم والمياه الصالحة للشرب.

الحق في العمل والمعيشة

بحسب التقرير الأممي، أدت التدابير القسرية إلى ارتفاع البطالة، وخفض الأجور، وتدهور ظروف العمل، مع توسع الاقتصاد غير الرسمي، وكانت الشركات الصغيرة والمتوسطة ورواد الأعمال من بين الأكثر تضررًا، ما انعكس على الاستقرار الاجتماعي والنمو الاقتصادي المحلي. 

كما تزايدت انتهاكات الحقوق العمالية، إذ أشارت منظمة العمل الدولية في تقاريرها إلى أن ملايين العمال في الدول الخاضعة للعقوبات يفتقدون مظلة الضمان الاجتماعي والعمل اللائق.

انعكاسات على الحق في الصحة والتعليم

أحد أخطر تداعيات العقوبات أحادية الجانب يتمثل في عرقلة الإمدادات الطبية والدوائية نتيجة القيود المالية والمصرفية، وهو ما وثقته منظمة الصحة العالمية في حالات عدة مثل إيران وسوريا وفنزويلا، فقد أدى تعطيل التحويلات البنكية وصعوبة الحصول على التأمين والشحن إلى نقص أدوية أساسية، بما في ذلك أدوية السرطان والسكري، كما تراجعت جودة التعليم في الدول المتأثرة بسبب صعوبة تمويل البرامج التعليمية وتآكل البنية التحتية التعليمية، وفق ما رصدته اليونسكو.

أكدت دوهان أن على الحكومات الخاضعة للعقوبات مسؤولية استخدام أقصى مواردها المتاحة للتخفيف من آثارها على المواطنين، غير أن الواقع، بحسب تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، يشير إلى أن هذه الموارد غالبًا ما تكون غير كافية نتيجة الانكماش الاقتصادي وفقدان مصادر التمويل الخارجي. في فنزويلا، على سبيل المثال، أدت العقوبات المالية والنفطية إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من 60 في المئة بين عامي 2013 و2020، ما انعكس على الخدمات العامة والقدرة الشرائية للمواطنين.

الإفراط في الامتثال

أبرز ما حذرت منه المقررة الأممية هو ما يُعرف بـ"الإفراط في الامتثال"، حيث تمتنع شركات وبنوك دولية عن التعامل مع دول خاضعة لعقوبات حتى في المجالات الإنسانية المسموح بها، هذا الإفراط يفاقم الأزمة، إذ تعجز المنظمات الإنسانية عن إيصال المساعدات أو تنفيذ البرامج التنموية، وأكدت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في عدة بيانات أن القيود المصرفية تعوق عملياتها في بلدان كإيران وسوريا، ما يؤخر إيصال الغذاء والمستلزمات الطبية للمحتاجين.

وفق ميثاق الأمم المتحدة، فإن فرض العقوبات الاقتصادية أو غيرها من التدابير القسرية يقع ضمن صلاحيات مجلس الأمن وحده، أما التدابير الأحادية التي تفرضها دول منفردة فلا تتمتع بالشرعية الدولية، بل تعتبر انتهاكًا لمبادئ القانون الدولي،  فالجمعية العامة للأمم المتحدة أدانت مرارًا هذه الممارسات، خاصة في قراراتها المتكررة منذ تسعينيات القرن الماضي التي اعتبرت الحصار الأمريكي على كوبا مثالًا صارخًا على العقوبات غير المشروعة.

من كوبا إلى إيران

بدأ الجدل حول العقوبات الأحادية منذ ستينيات القرن الماضي مع فرض الولايات المتحدة حظرًا اقتصاديًا شاملًا على كوبا عقب الثورة الكوبية، لاحقًا، توسع هذا النمط ليشمل دولًا مثل العراق في التسعينيات، حيث أدت العقوبات إلى تدهور الخدمات الصحية والتعليمية وزيادة معدلات وفيات الأطفال، بحسب تقارير اليونيسف، وفي العقود الأخيرة، فرضت عقوبات مشابهة على إيران، وسوريا، وروسيا، وفنزويلا، لتكشف عن نمط متكرر من المعاناة الإنسانية المرتبطة بالتدابير الانفرادية.

إحصاءات وأصوات حقوقية

تقديرات لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) تشير إلى أن العقوبات المفروضة على سوريا تسببت في خسائر تجاوزت 100 مليار دولار في الناتج المحلي الإجمالي منذ عام 2011، إضافة إلى انهيار قيمة العملة الوطنية وتراجع حاد في مستوى المعيشة، في فنزويلا أشار تقرير صادر عن مركز البحوث الاقتصادية والسياسية في واشنطن عام 2019 إلى أن العقوبات الأمريكية ساهمت في وفاة ما لا يقل عن 40 ألف شخص خلال عامي 2017 و2018 نتيجة نقص الأدوية والمستلزمات الطبية.

منظمات حقوقية دولية مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية دعت مرارًا إلى مراجعة شاملة للعقوبات الانفرادية، معتبرة أنها تنتهك مبدأ عدم التمييز وتمس بحقوق الفئات الأكثر هشاشة، وأكدت المفوضة السامية لحقوق الإنسان السابقة، ميشيل باشليه، أن العقوبات ينبغي ألا تُستخدم أداة للضغط السياسي على حساب حياة المدنيين.

التداعيات على أهداف التنمية المستدامة

العقوبات لا تقف عند حدود الحقوق الأساسية، بل تعرقل أيضًا تحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030، خصوصًا الأهداف المتعلقة بالقضاء على الفقر والجوع وضمان الصحة الجيدة والتعليم. 

تقارير الأمم المتحدة أوضحت أن الدول الخاضعة للعقوبات غالبًا ما تتراجع في مؤشرات التنمية لعقود، ما يفاقم الفجوة بين الشمال والجنوب العالميين.

وسط هذا الواقع، دعت المقررة الأممية إلى مراجعة شاملة للتدابير الانفرادية، وإلى التزام الدول بعدم عرقلة القرارات الإنسانية الصادرة عن مجلس الأمن أو التدخل في إيصال المساعدات، كما شددت على ضرورة تطوير أدوات أممية لرصد الأثر الفعلي للعقوبات على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وإلزام الدول والمنظمات الإقليمية بالتقارير الدورية حول التدابير المفروضة.

ثمن إنساني يتجاوز السياسة

تتجلى خطورة التدابير القسرية الأحادية في أنها تفرض ثمنًا إنسانيًا باهظًا على شعوب بأكملها، في حين تظل الأهداف السياسية المعلنة موضع جدل حول جدواها، وبينما تؤكد الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية أن القانون الدولي يقف ضد هذه الإجراءات، يبقى التحدي الحقيقي في غياب آلية تنفيذية ملزمة تضع حدًا لها، ومع استمرار النزاعات والأزمات الاقتصادية العالمية، يتصاعد القلق من أن العقوبات الانفرادية قد تتحول إلى عقاب جماعي يقوض حقوق الإنسان والتنمية على حد سواء.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية